نســــمة حيـــاة
كان قد مضى
على اقلاع الطائرة من مطار بيروت ، حوالي الساعتين ، والسيد "ماجد" غارق في
أفكاره وهواجسه . هو ضابط في الجيش اللبناني ، قدم استقالته ، و قرر الهجرة
الى الولايات المتحدة الأميركية ، لقد سئم المعاناة ، هموم و مشاكل الوطن
الصغير لا تنتهي.
الكل
يشكو و
باب الخلاص ما
زال سراباً. لماذا علينا أن نعيش العمر كله بالقلق و الخوف على المصير؟...
و قدم طلب الهجرة الى السفارة الأميركية في بيروت، وكانت الموافقة على
طلبه.
"عليك أن
تغادر بمفردك، و بعد ذلك يأتي دور عائلتك". هذا ما أبلغه اياه المسؤول عن
أمور الهجرة في السفارة . فعم قلبه الفرح، والكثير من التساؤلات...
وصلت الطائرة
الى مدينة د. الأميركية، و كان في استقباله ابن عمه وبعض الأقارب والأصحاب.
"سوف تنزل
عندي لبضعة ايام، بعدها تقرر الخطوة التالية" . هذا ما قاله ابن عمه.
وراح يتلمس
خطواته الأولى في البلاد الغريبة، عالم مختلف بكل ما للكلمة من معنى. وبعد
شهر حصل على عمل في احدى الشركات الكبرى. ولكن براتب ضئيل، و ملاحظة غريبة
من ابن عمه :
"انتبه ...
هذه الشركة تسيطر عليها احدى الجهات المرتبطة بدولة شرق أوسطية". و قلب
شفتيه وأجاب : لا يهم !
وفي اليوم
الأول استدعاه المدير، ورحب به بابتسامة باهتة ، و أردف :
"عليك أن تنسى
كل ما له علاقة بالماضي، أنت تسعى لتكون مواطناً أميركياً، فعليك أن تكون
مواطناً أميركيا"ً.
و فهم معنى
كلامه : اذاً عليه أن يتخلى عن كل مبادئه و تراثه و تاريخه ووطنيته . عليه
أن ينسى أنه لبناني خدم بلده لسنوات طوال و ضحى بالكثير لأجله. أليس هو من
أقسم في يوم من الأيام على بذل دمه في سبيل مجد وطنه ؟
ليقل هذا
الأميركي المتعجرف ما يشاء. ان ما في القلوب لا يعلمه الا الله.
ومرت الشهور و
تحسنت أحواله المادية. ولكن الأسهم الجارحة كانت تمزق يومياً قلبه ووجدانه.
فان هذا المدير الاميركي لا ينفك يردد على مسامعه، بمناسبة و بدون مناسبة :
ان الشعوب العربية شعوباً متخلفة. لبنان بلد ضائع، و شعبه جاهل، لا يعرف
كيف يبني دولته ، فهو متخلف كالعرب. أليس هو شقيقهم؟
و الأمر الذي
فاق كل تصور، هو أنه في احدى المرات شاهده وهو يحمل علاقة مفاتيح عليها
الأرزة اللبنانية ، فانتهره بكل وقاحة : عليك أن ترمي هذه في سلة
المهملات. لا وجود هنا الا للعلم الأميركي فقط ، هل تفهم؟
وأومأ برأسه و
أحس أنه أصبح بلا كرامة . لقد فقد عزة النفس ، حتى الأنجم التي كانت على
كتفيه، سقطت الواحدة تلو الأخرى . و طأطأ رأسه حسرةً . لقد أحس نفسه آلة
تتحرك بلا حياة ، خصوصاً بعد أن رأى الكثير من اخوانه اللبنانيين يعيشون
نفس الواقع المر.
وجاء عيد
استقلال لبنان، نهض السيد "ماجد" صباح العيد يشعر بنفسه يعود ضابطاً في
الجيش اللبناني، فتح التلفزيون على محطة لبنانية ، فانطلقت منه الأناشيد
الوطنية، و تطلع اليه، فاذ بمشاهد الأعلام والاحتفالات تعم الساحات
اللبنانية ، و انطلق صوت المذيع يحدد وقت بدء العرض العسكري بحضور كافة
الرؤساء والشخصيات الرسمية ، فجلس يتابع البرامج وقد أحس أنه يجلس في منزله
بضاحية بيروت.
في طريقه الى
عمله ، مرّ على احدى المحلات ، واشترى العلم اللبناني ، اختاره كبيراً
مرفوعاً على سارية وله قاعدة كالذي يوضع قرب المسؤولين. وحمله الى مكتبه ،
ووضعه الى جانبه مع العلم الأميركي وراح يتابع عمله كالمعتاد وقد أحسّ
بنسمة الحياة تعود اليه.
بعد لحظات كانت
غرفته تعجّ بالعشرات من اللبنانيين يعايدون بعضهم بعضاً. لقد دوّت ضحكاتهم
الخارجة من قلوبهم. وعلا صخبهم حتى وصل الى المدير الأميريكي، فهرع وقد
تملّكه الغضب عندما عرف حقيقة الأمر...
ولكن حينما
وصل اليهم فوجئ بالجميع. لبنانيين من جميع مناطق لبنان وجميع طوائفه،
ينشدون النشيد الوطني اللبناني وعيونهم ترنو الى علمهم!
لحظات صمت
مرّت وانتقلت النظرات والمسامع الى المدير الأميريكي لترى وتسمع ردّة فعله
. فاذا بالابتسامة تظهر على وجهه وهو يتقدم ليحمل كأساً من كؤوس الشراب
ويرفعه عالياً وهو يقول: أهنئكم بعيد استقلال بلدكم وأرجو للبنان المزيد من
التقدّم والازدهار، وكل عام وأنتم بخير.
جوزيف خوري صيقلي
المية و مية آذار 2007 |