"الزعتر" و المصلوب
سعيد فضول،
أبو راجي، قروي يعشق الحياة في ضيعته، لا يغادرها الا نادرا"، فهو يقول :
لا أستطيع النوم الا في بيتي و بين أهلي وأبناء بلدتي. وقد كان عاملا" في
احدى الشركات، وعندما بلغ سن التقاعد، ترك العمل بتعويض صرف معظمه على
حاجات ضرورية، ولم يبق معه الا القليل، يحفظه للأيام، خصوصا" أن صحة زوجته
ليست على ما يرام، والأطباء والأدوية تحتاج الى الكثير من الأموال. له
ولدان ، ابن هو راجي، تزوج من قريبة لهم، وبنى منزلا" متواضعا" في قريته،
وقد أنجب ثلاثة أولاد، وهو يعمل في البلدية، وابنة هي نجاة تزوجت من أحد
أبناء البلدة، وهما تسكنان مع أولادهما في منزل مستأجر باحدى ضواحي بيروت،
وحالتهم المادية متعثرة، فالزوج نجار، وحالة البناء متوقفة وسط المضاربات
وكثرة النجارين من غير اللبنانيين، وبكلمة كانت تختصر حياة عائلة سعيد
الصعبة، كان يجيب بها عند سؤاله عن حالته :
"ساترها
المولى".
وجاء أسبوع
الآلام .... هذا الاسبوع الذي تنتظره الضيعة كل عام، فالصلوات تتواصل من
أوله حتى قيام المخلص صباح نهار الأحد. وجميع الناس تعيش خلاله بصوم وصلاة
وايمان.
صباح
الثلاثاء، نزل سعيد الى الحقول المجاورة لمنزله ، يقطف "الزعتر" و الشومر
والهندباء البرية ، فالخضرة الطبيعية يلذ أكلها خلال هذا الأسبوع العظيم،
كان يحمل سلته بيد، ويقطف باليد الأخرى، وأفكاره وهواجسه تمتد بعيدا".
غدا" يأتي
العيد، الناس كلها تستعد لهذه المناسبة، من ثياب جديدة، ومآدب لأطايب
الطعام، والحلويات الخاصة بعيد الفصح ستتواجد في كل منزل...
وعاد بتفكيره
الى نفسه وعائلته، فهو لم يشتر له ولعائلته ثيابا" جديدة، وأرضى نفسه
"العيد ليس بالثياب ولا بالمآكل". ولكن ما ذنب الصغار, نهار الأربعاء،
ستأتي نجاة وأولادها وزوجها ليعيدوا عيد القيامة في ضيعتهم، فلقد اتصلت بهم
منذ يومين تعلمهم بذلك وعند سؤالها عن أحوال عمل زوجها، أجابت والغصة تظهر
من كلامها: لقد مر مر عليهم أكثر من ثلاثة أشهر دون أن يعمل يوما" واحدا".
وكالعادة، سيعطيها والدها مبلغا" من المال، يقتطعه من رصيده المتبقي في
البنك، فما العمل؟ أيتركها تجوع مع أولادها, وأما من ناحية ابنه فهو أيضا"
بحاجة للمساعدة، فراتبه لا يكفيه طعاما" له ولعائلته ....
(الله بيدبر)
وحمل السلة الممتلئة بمختلف الخضار البرية، وعاد الى بيته، فالساعة تقترب
من الثانية عشرة ، موعد قرع الأجراس وقت الافطار، وهو يحب أن يتناول طعامه
مع زوجته، وهم يستعمون الى الصلاة من أحدى المحطات التلفزيونية، انها أيام
جميلة، أيام الصوم المبارك، فكلها خير وبركة.
وجاءت ابنته
وعائلتها، واجتمعت مع عائلة أخيها عند الوالد، ان لقاء الأهل والأحباب
يساوي ملايين الدولارات، سوف انزل غدا" الى المدينة، واسحب مبلغا" من من
المال، وأقسمه بين البن والابنة ليشتريا ثيابا" جديدة لأولادهما، فالعيد
بالنسبة للأولاد لا معنى له، اذا لم يكن بثياب جديدة.
وجاء يوم
الخميس العظيم، يوم تسليم السيد وصلبه, وامتلأت الكنيسة بجموع المؤمنين،
وابتدأت الصلوات والأناجيل تخبر عن مراحل الآلام حتى الصلب والموت. وحمل
الكاهن الصليب الكبير وطاف في صحن الكنيسة، ومر من أمام سعيد، فمد يده
ولمسه هامسا" : ساعدنا أن نقوم معك أيها المخلص.
وقرعت الأجراس
معلنة انتهاء الصلاة, وعاد سعيد الى منزله، وراح يتابع برامج التلفزيون.
وكان موعد اللوتو اللبناني، وحدقت عيناه في الأرقام الرابحة، ودقات قلبه
تتزايد، لقد أصاب خمسة أرقام والرقم الاضافي. انها الجائزة الثانية، وعلت
الصرخة في أرجاء البيت: لقد ربحنا ! لقد ربحنا ! وأعلنت المذيعة بعد قليل
أن هناك رابحا" للجائزة الثانية وقيمتها مئتان وثلاثة عشرون مليونا". وما
هي الا لحظات حتى امتلأ البيت بالأقارب والجيران والأصحاب، الكل يهنئ،
وكلمة واحدة كانت تتردد، أنت انسان طيب وآدمي، يا أبا راجي، والله كريم
وانت تستاهل.
صباح نهار
الأحد، وبعد أسبوعين، وعند انتهاء القداس ، سلم سعيد وكلاء الوقف في كنيسة
الضيعة مبلغ خمسة آلاف دولارا" أميركيا" تقدمة للوقف، وكان موضوعا" في مغلف
كتب عليه :
شكرا" لك أيها المصلوب
جوزاف خوري
صيقلي
المية ومية في
2007/12/30 |